فصل: تفسير الآيات (52- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (52- 58):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)}
ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به، عاطفاً على هذه القصة: {وأوحينا} أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود {إلى موسى أن أسر} أي سر ليلاً، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم {بعبادي} أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله: {إنكم متبعون} أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر، ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.
ولما كان التقدير: فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل، عطف عليه قوله: {فأرسل فرعون} أي لما أصبح وأعلم بهم {في المدائن حاشرين} أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم: {إن هؤلاء} إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا، لما بهم من العجز، وبآل فرعون من القوة، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم {لشرذمة} أي طائفة وقطعة من الناس.
ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولاسيما ما للسلامة مع كونه أيضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضاً إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد. وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال: {قليلون} أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون- انتهى.
وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة.
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال: {وإنهم لنا} ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة {لغائظون} أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.
ولما كان مدار مادة شرذم على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: {وإنا لجميع} أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه ب {قليلون} من الاستضعاف فقال: {حاذرون} أي ونحن- مع إجماع قلوبنا- من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.
ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم: {فأخرجناهم} أي بما لنا من القدرة، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه {من جنات} أي بساتين يحق لها أن تذكر {وعيون} لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر {وكنوز} من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد {ومقام} من المنازل {كريم} أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.

.تفسير الآيات (59- 68):

{كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)}
ولما كان الخروج عن مثل هذا مما يستنكر، أشار إلى عظمة القدرة عليه بقوله: {كذلك} أي مثل ذلك الإخراج العجيب الذي أراده فرعون من قومه في السرعة والكمال الهيبة أخرجناهم نحن بأن يسرنا له ولهم ذلك، ووفرنا لهم الأسباب، لما اقتضته حكمتنا، أو مثل ذلك الخروج الذي قصصناه عليك أخرجناهم، أي كان الواقع من خروجهم مطابقاً لما عبرنا به عنه، أو الأمر الذي قصصناه كله كما قلنا وأولها أقعدها وأحسنها وأجودها {وأورثناها} أي تلك النعم السرية بمجرد خروجهم بالقوة وبإهلاكهم بالفعل {بني إسرائيل} أي جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستبعدين تحت أيدي أربابها، وأما إرثهم لها بالفعل ففيه نظر لقوله في الدخان {قوماً آخرين}.
ولما وصف الإخراج، وصف أثره فقال مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوة: {فأتبعوهم} أي جعلوا أنفسهم تابعة لهم {مشرقين} أي داخلين في وقت شروق الشمس، أي طلوعها من صبيحة الليلة التي سار في نصفها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن على حكم العادة في أقل من عشرة أيام، فإنه أمر يعجز الملوك مثله، فيا له من حشر ما أسرعه! وجهاز ما أوسعه! واستمروا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم كما تقدم في الأعراف شرح ذلك عن التوراة، وتقدم سر تسييرهم في تلك الطريق {فلما تراءى الجمعان} أي صارا بحيث يرى كل منهما الآخر {قال أصحاب موسى} ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال: إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل، وذلك محق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم ب {أصحاب} دون بني إسرائيل لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم: {إنا لمدركون} أي لأنهم قد وصلوا ولا طريق لنا وقد صرنا بين سدين من حديد وماء، العدو وراءنا والماء أمامنا {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله، ناطقاً بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله: {كلا} أي لا يدركونكم أصلاً؛ ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله: {إن معي ربي} فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: {سيهدين} أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم، وتقدم في براءة سر تقديم المعية وخصوصها والتعبير باسم الرب {فأوحينا} أي فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا؛ ونوه باسمه الكريم جزاء له على ثقته به سبحانه فقال: {إلى موسى} وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله: {أن اضرب بعصاك البحر} أي الذي أمامكم، وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه إلى الطور وإلى مكة المشرفة وما والاها {فانفلق} أي فضربه فانشق بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر الله وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم {فكان كل فرق} أي جزء وقسم عظيم منه {كالطود} أي الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان {العظيم} المتطاول في السماء الثابت لا يتزلزل، لأن الماء كان منبسطاً في أرض البحر، فلما انفرق وانكشفت فيه الطرق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء.
ولما كان التقدير: فأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق، عطف عليه: {وأزلفنا} أي قربنا بعظمتنا من قوم موسى عليه السلام؛ قال البغوي. قال أبو عبيدة: جمعنا، ومنه ليلة المزدلفة، أي ليلة الجمع.
ولما كان هذا الجمع في غاية العظمة وعلو الرتبة، أشار إلى ذلك بأداة البعد فقال: {ثم} أي هنالك، فإنها ظرف مكان للبعيد {الآخرين} أي فرعون وجنوده {وأنجينا موسى ومن معه} وهم الذين اتبعوه من قومه وغيرهم {أجمعين} أي لم نقدر على أحد منهم الهلاك.
ولما كان الإغراق بما به الإنجاء- مع كونه أمراً هائلاً- عجيباً وبعيداً عبر بأداة البعد فقال: {ثم أغرقنا} أي إغراقاً هو على حسب عظمتنا {الآخرين} أي فرعون وقومه اجمعين، لم يفلت منهم أحد.
ولما قام عذر موسى عليه السلام فيما استدفعه أول القصة من كيد فرعون بما ثبت له من العظمة والمكنة في كثرة الجند وعظيم الطاعة منهم له في سرعة الاجتماع الدالة على مكنتهم في أنفسهم، وعظمته في قلوبهم، رغبة ورهبة، وظهر مجد الله في تحقيق ما وعد به سبحانه من الحراسة، وزاد ما أقر به العيون، وشرح به الصدرو، وكان ذلك أمراً يهز القوى سماعه، ويروع الأسماع تصوره وذكره، قال منبهاً على ذلك: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات {لآية} أي علامة عظيمة على ما قال الرسول موجبة للإيمان به من أن الصانع واحد فاعل بالاختبار، قادر على كل شيء، وأنه رسوله حقاً {وما كان أكثرهم} أي الذين شاهدوها والذي وعظوا بسماعها {مؤمنين} لله أي متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام- على ما يقال، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم مزلزلاً يتعنت كل قليل، ويقول ويفعل ما هو كفر، حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً الأصنام التي مروا عليها، وأما غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف، وأمرهم مشاهد مكشوف {وإن ربك} أي المحسن إليك بإعلاء أمرك، واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم} أي الفاعل فعل البليغ الرحمة، فهو يمهل ويدر النعم، ويحوط من النقم، ولا يمهل، بل يرسل رسلاً، وينزل معهم ما بين به ما يرضيه وما يسخطه، فلا يهلك إلا بعد الإعذار، فلا تستوحش ممن لم يؤمن، ولا يهمنك ذلك.

.تفسير الآيات (69- 79):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)}
ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة موسى عليه السلام، أتبعه دلالة على رحيميته قصة إبراهيم عليه السلام لما تقدم أنه شاركه فيه مما يسلي عما وقع ذكره عنهم من التعنتات في الفرقان، ولما اختص به من مقارعة أبيه وقومه في الأوثان، وهو أعظم آباء العرب، ليكون ذلك حاملاً لهم على تقليده في التوحيد إن كانوا لا ينفكون عن التقليد، وزاجراً عن استعظام تسفيه آبائهم في عبادتها، وتعبيره سبحانه للسياق قبل وبعد، وتعبيره بقوله: {واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة- مرجح للتقدير الأول في {وإذ} من جعله اذكر وتغييره في التعبير بها لسياق ما تقدم وما تأخر لتنبيه العرب على اتباعه لما لهم به من الخصوصية {عليهم} أي على هؤلاء المغترين بالأوثان، المنكرين لرسالة البشر {نبأ إبراهيم} أي خبره العظيم في مثل ذلك {إذ} أي حين {قال لأبيه وقومه} منبهاً لهم على ضلالهم، لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم: {ما} أي أي شيء، وصور لهم حالهم تنبيهاً لهم على قباحتها فعبر بالمضارع فقال: {تعبدون} أي تواظبون على عبادته {قالوا} مبتهجين بسؤاله، مظهرين الافتخار في جوابهم بإطالة الكلام: {نعبد أصناماً فنظل} أي فيتسبب عن عبادتنا لها أنا نوفي حق العبادة بأن ندوم {لها عاكفين} أي مطيفين بها على سبيل الموظبة متراكمين بعضنا خلف بعض حابسين أنفسنا تعظيماً لها، فجروا على منوال هؤلاء في داء التقليد الناشئ عن الجهل بنفس العبادة وبظنهم مع ذلك أنهم على طائل كبير، وأمر عظيم، ظفروا به، مع غفلة الخلق عنه- كما دل عليه خطابهم في هذا الكلام الذي كان يغني عنه كلمة واحدة، وهذا هو الذي أوجب تفسير الظلول بمطلق الدوام وإن كان معناه الدوام بقيد النهار، وكأنهم قصدوا بما يدل على النهار- الذي هو موضع الاشتغال والسهرة- الدلالة على الليل من باب الأولى، مع شيوع استعماله أيضاً مطلقاً نحو {فظلت أعناقهم لها خاضعين} وزاد قوم إبراهيم عليه السلام أن استمروا على ضلالهم وأبوه معهم فكانوا حطب النار، ولم يتكمن من إنقاذهم من ذلك، ولم تكن لهم حيلة إلا دعاؤهم، فهو أجدر بشديد الحزن وببخع نفسه عليهم وهو موضع التسلية.
ولما فهم عنهم هذه الرغبة، أخذ يزهدهم فيها بطريق الاستفهام الذي لا أنصف منه عن أوصاف يلجئهم السؤال إلى الاعتراف بسلبها عنهم، مع كل عاقل إذا تعقل أن لا تصح رتبة الإلهية مع فقد واحدة منها، فكيف مع فقدها كلها؟ فقال تعالى مخبراً عنه: {قال} معبراً عنها إنصافاً بما يعبر به عن العقلاء لتنزيلهم إياها منزلتهم: {هل يسمعونكم} أي دعاءكم مجرد سماع؛ ثم صور لهم حالهم ليمنعوا الفكر فيه، فقال معبراً بظرف ماض وفعل مضارع تنبيهاً على استحضار جميع الزمان ليكون ذلك أبلغ في التبكيت: {إذ تدعون} أي استحضروا أحوالكم معهم من أول عبادتكم لهم وإلى الآن: هل سمعوكم وقتاً ما؟ ليكون ذلك مرجياً لكم لحصول نفع منهم في وقت ما.
ولما كان الإنسان قد يعكف على الشيء- وهو غير سامع- لكن لنفعه له في نفسه أو ضره لعدوه كالنار مثلاً، وكان محط حال العابد والداعي بالقصد الأول بالذات جلب النفع، قال: {أو ينفعونكم} أي على العبادة كما ينفع أقل شيء تقتنونه {أو يضرون} على الترك: {قالوا}: لا والله! ليس عندهم شيء من ذلك {بل وجدنا آباءنا كذلك} أي مثل فعلنا هذا العالي الشأن، ثم صوروا حالة آبائهم في نفوسهم تعظيماً لأمرهم فقالوا: {يفعلون} أي فنحن نفعل كما فعلوا لأنهم حقيقون منا بأن لا نخالفهم، مع سبقهم لنا إلى الوجود، فهم أرصن منا عقولاً، وأعظم تجربة، فلولا أنهم رأوا ذلك حسناً، ما واظبوا عليه، هذا مع أنهم لو سلكوا طريقاً حسية حصل لهم منها ضرر حسي ما سلكوها قط، ولكن هذا الدين يهون على الناس فيه التقليد بالباطل قديماً وحديثاً.
ولما وصلوا إلى التقليد المخض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها {قال} معرضاً عن جواب كلامهم بنقص، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه من شم رائحة الرجولية: {أفرأيتم} أي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم: أرأيتم، اي إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً {ما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة لكم {تعبدون} مواظبين على عبادتهم {أنتم}.
ولما أجابوه بالتقليد، قال لهم ما معناه، رقوا تقليدكم هذا إلى أقصى غاياته، فإن التقدم والأولوية لا تكون برهاناً على الصحة، والباطل لا ينقلب حقاً بالقدم، وذلك مراده من قوله: {وآباؤكم الأقدمون} أي الذين هم أقدم ما يكونون: هل لهم وصف غير ما أقررتم به من عدم السماع والنفع والضر؟ {فإنهم} أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخباراً مؤكداً أنهم.
ولما كانت صيغة فعول للمبالغة، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولاسيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول والصهيل، فقال مخبراً عن ضمير الجمع: {عدو لي} أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الأخرى {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 54]، {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 57] و{تالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 67].
ولما كانوا هم مشركين، وكان في آبائهم الأقدمين من عبد الله وحده. قال: {إلا رب العالمين} أي مدبر هذه الأكوان كلها- كما قال موسى عليه السلام- لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها، فإنه ليس بعدوي، بل هو وليّي ومعبودي؛ ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال: {الذي} ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقال: {خلقني} أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي إلى الرشاد، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه، ولا يكن خالقه إلا سمعياً بصيراً ضاراً نافعاً، له الكمال كله، ولا شك أن الخلق للجسد، والهداية للروح، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع، والإنسان له قالب من عالم الخلق، وقالب من عالم الأمر، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية، ولقوله: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} [الحجر: 29] وأمثال ذلك، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها ديناً ودنيا {والذي هو} أي لا غيره {يطعمني ويسقين} ولو أراد لأعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلاً ولا شرباً.